حلف الأقليات الإسرائيلي- تهديد إقليمي واستراتيجية تركيا لمواجهته

المؤلف: عريب الرنتاوي10.02.2025
حلف الأقليات الإسرائيلي- تهديد إقليمي واستراتيجية تركيا لمواجهته

في تطور لافت، لم يعد اليمين المتطرف في إسرائيل يخفي نواياه الخبيثة، بل بات يعلن عن مخططاته ومشاريعة التي تهدد أمن واستقرار وسيادة دول المنطقة ووحدة مجتمعاتها.

آخر هذه التصريحات المدوية، ما قاله الوزير جدعون ساعر، داعيًا إلى تشكيل "تحالف أقليات" إقليمي تدعمه إسرائيل لاستهداف خصومها الممتدين من شرق المتوسط حتى شواطئ قزوين.

لم يمضِ على تولي ساعر حقيبة الخارجية سوى أيام معدودة بعد الإطاحة بوزير الدفاع، حتى بدأ يكشف عن ملامح "رؤيته الإستراتيجية" للمنطقة، حيث تعتبر إسرائيل "أقلية وسط أغلبية معادية"، ويقترح البحث عن "قواسم مشتركة" مع أقليات أخرى، بدءًا من دروز سوريا ولبنان، وصولًا إلى أكراد سوريا والعراق وتركيا وإيران، مؤكدًا أن اللعب على ورقة "المكونات" سيجعل إسرائيل "أكبر الأقليات وأقواها" في نسيج الشرق الأوسط المتداخل ودوله الإقليمية المحيطة بالعالم العربي.

يدفع هذا الأمر إلى الاعتقاد بأن ساعر لم يكشف سوى عن جزء يسير من مخططه لـ "تفتيت المفتت"، بينما يظل الجزء الأكبر منه خفيًا، ويشمل بالتأكيد مختلف "المكونات" الاجتماعية في دول المشرق وجواره الإقليمي.

بالنظر إلى السياق والتوقيت الذي طُرح فيه "حلف الأقليات"، يمكن الافتراض بأن تركيا، قبل غيرها، هي المستهدفة بالدرجة الأولى في هذه الإستراتيجية الممنهجة لتفكيك المجتمعات وتقويض وحدة أراضيها.

فأنقرة، صعّدت من انتقاداتها للحرب الإسرائيلية الشنيعة على غزة ولبنان، وتعتبر حماس والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية حركات تحرر وطني مشروعة، تواجه "طوفان التشويه" و"حرب الإبادة" التي تشنها آلة "الدعاية" الإسرائيلية، بدعم من أطراف غربية وإقليمية نافذة.

ربما تنبهت القيادة التركية لهذا الأمر مبكرًا، قبل أن يبوح ساعر بمخططاته، عندما بدأت تحذر من احتمال امتداد نيران الحرب إلى سوريا، بالقرب من حدودها، وأبدت استعدادها لمواجهة تركية – إسرائيلية في حال تفاقم الوضع وعجز المجتمع الدولي عن وقفه.

في كل مرة صدرت فيها تحذيرات من أنقرة، كانت الأنظار تتجه إلى لعبة "المكونات" التي تسعى إسرائيل لفرضها على المنطقة، بدعم من جهات غربية عديدة، وتحت ذرائع وحجج واهية.

مبادرتان استباقيتان

في هذا الإطار، يمكن النظر إلى المبادرات الاستباقية الأخيرة التي أطلقتها أنقرة، وأهمها مبادرتان: الأولى داخلية، أطلقها دولت بهتشلي، حليف أردوغان وزعيم الحركة القومية و"الذئاب الرمادية"، بهدف طي صفحة المصالحة بين الأتراك والأكراد، وكانت مفاجئة من حيث التوقيت والجهة التي أطلقتها، وسط اعتقاد سائد بأنها مرتبطة بالسياق الإقليمي وتصاعد "الوحشية" الإسرائيلية، وأنها جاءت بتنسيق مسبق بين بهتشلي وأردوغان.

صحيح أن المبادرة أثارت قلق خصومها الداخليين، خاصة على "طرفي التطرف القومي" الكردي – التركي، وأحدثت انقسامًا بين "تيار قنديل" داخل الأكراد، وتيار المصالحة والاعتدال، الذي يُعتقد أن عبدالله أوجلان يقوده من محبسه في جزيرة "إمرالي".

وصحيح أن معارضي المصالحة سعوا لتقويضها قبل انطلاقها وسط الظروف المعقدة وتضارب المصالح، بدلالة الهجوم على شركة "توساش" في قلب أنقرة في الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما تلاه من تصعيد في العمليات التي طالت مناطق داخل تركيا وخارجها (سوريا والعراق).. لكن الصحيح أيضًا، أن مسار المبادرة لا يزال قائمًا، رغم العقبات، وقد يستمر، طالما أن هدفه النهائي هو تحصين الداخل التركي في وجه مؤامرات التفكيك.

أما المبادرة الثانية، فكانت سابقة على تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وإن اكتسبت زخمًا إضافيًا في الأسابيع الأخيرة، وتتمثل في رغبة تركيا القوية في المصالحة مع دمشق، وعروض الرئيس التركي المتكررة للقاء الأسد، وإغلاق صفحات الخلاف بين البلدين.. وهي مبادرة مدفوعة بجملة من الحسابات والاعتبارات التركية، من بينها قضية اللاجئين السوريين، وأهمها "المسألة الكردية".

في الواقع، لم تكن أنقرة بحاجة لانتظار جدعون ساعر ليكشف عن نواياه العدائية تجاه تركيا، حتى تبدأ بالتحرك المضاد، والشروع في إفشال أهدافه، ومن المؤكد أنها كانت تدرك أن "النجاحات" التي حققتها إسرائيل على الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي مواجهة حزب الله، وتكثيف عملياتها ضد حزب الله وإيران في سوريا، فيما يشبه الاختراق الكامل للأجواء والسيادة السوريتين، من شأنها أن تحيي النزعات الانفصالية لدى بعض التيارات الكردية في المنطقة، خاصة وأن هذه النزعات قد تغذت تاريخيًا وتضخمت، على خلفية "الغطرسة" و"الاستعلاء" الإسرائيلي.

كما أن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على إيران، سواء في الداخل أو في مناطق نفوذها، وعدم قدرة الأخيرة على بناء قوة ردع صارمة في مواجهة التهديدات باستهداف برنامجيها النووي والصاروخي – ضمن أهداف إستراتيجية أخرى – ساهم بدوره في زيادة المخاوف التركية، من تنامي الدور الإقليمي لإسرائيل، ولجوء تل أبيب لاستخدام أدوات من النوع الذي تحدث عنه ساعر: "تحالف الأقليات".

العامل الأميركي

لم تكن العلاقات التركية بإدارة بايدن دائمًا ودية، وغلب عليها التوتر في بعض الأحيان على حساب متطلبات عضوية البلدين في "الناتو"، ومن بين الأسباب التي أدت إلى فتور العلاقات وتوترها، احتلت "المسألة الكردية" مكانة بارزة في تحديد شكل العلاقة مع إدارة بايدن الديمقراطية.

فالرئيس بايدن، عُرف عنه تاريخيًا تعاطفه الشخصي مع "الانفصالية" الكردية، وكان من أوائل من دعا إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات. ودعم بقوة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والهيئات والأذرع السياسية والاجتماعية والمالية المنبثقة عنها.

كما دافع بشدة عن بقاء وحدات من الجيش الأميركي في مناطق شمال شرق سوريا؛ لحماية الحركة الكردية ودعمها، سواء في مواجهة دمشق وطهران وحلفائهما، أو بالأخص في مواجهة تركيا. وأغدق على أكراد سوريا، الأقرب إلى "مدرسة أوجلان" والـ "بي كي كي"، السلاح والعتاد، الأمر الذي لطالما دق ناقوس الخطر في مراكز صنع القرار في الدولة التركية.

ربما لهذا السبب تحديدًا، استقبلت تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان خبر فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية واكتساح حزبه الجمهوري مقاعد الأغلبية في مجلسَي الشيوخ والنواب، بارتياح كبير، فالأول نجح في إقامة "علاقات عمل" مثمرة، وأرسى أسسًا للصداقة مع الأخير، لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا، وهو متحرر من أي ارتباطات أو "مشاعر" تجاه أكراد المنطقة، والأهم من ذلك، أنه بادر في ولايته الأولى إلى الإعلان عن نيته سحب قواته من شمال سوريا، وقد يستكمل في ولايته الثانية ما بدأه، قبل تدخل مؤسسات "الدولة العميقة" الأميركية لإحباط مساعيه آنذاك.

لكن مشاعر الارتياح للتحولات الأخيرة في الإدارة والكونغرس الأميركيين، لا تكفي لتبديد مخاوف أنقرة مما قد تقدم عليه تل أبيب. فالأتراك، بلا شك، يدركون تمامًا "مساحات المناورة وحرية الحركة" التي تتمتع بها إسرائيل في علاقاتها مع الولايات المتحدة.

يدركون تمام المعرفة أن اليمين المتطرف في تل أبيب قادر على استمالة مشاعر اليمين الأميركي المتطرف، وملاعبة أولويات "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، وحتى على عكس رغبة الإدارة في بعض الأحيان، إذا تطلب الأمر و"المصلحة العليا" ذلك. ومن هنا يمكن القول إن مسار تركيا في التعامل مع "المسألة الكردية" لن يكون سهلًا وميسرًا.

تعتمد أنقرة أيضًا على قلة اهتمام ترامب بالقضية السورية، ولمست خلال ولايته الأولى استعداده للتسامح مع دور روسي متنامٍ في سوريا، وتفضيله تنامي هذا الدور على حساب الدور الإيراني تحديدًا، فيما قد يقدم الرجل على فتح صفحة جديدة من التعاون مع الكرملين في أوكرانيا وملفات أخرى على الساحة الدولية.

وتعوّل أنقرة أيضًا على ما يمكن لموسكو أن تفعله انطلاقًا من مصلحتها في خروج القوات الأميركية من سوريا، سواء من خلال تحفيز جهودها للمصالحة مع دمشق، أو من خلال التوسط بين القامشلي والأسد، فضلًا عن تخفيف حدة التوتر في علاقاتها مع إسرائيل، في ضوء ما يتردد عن جهود روسية للدخول على ملفات الوساطة بين إسرائيل ولبنان، ونوايا لم تتضح بعد، تشير إلى دعم روسي لقيام سوريا بدور في الحد من قدرة حزب الله على إعادة بناء قدراته العسكرية، في حال انتهت الحرب على هذه الجبهة.

هذه مرحلة جديدة تدخلها العلاقات التركية الإسرائيلية، تحكمها ثوابت ومتغيرات لدى الطرفين، في بيئة محلية وإقليمية بالغة التعقيد، والأيام المقبلة تبدو حبلى بالمفاجآت.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة